مقالات للكاتب

أحمد ضياء دردير

الجمعة 3 كانون الثاني 2025

شارك المقال

أأيقاظٌ أُميّةُ أم نيام؟


في خضم الفتنة، يستدعى بنو أمية استدعاء فتنوياً. قرّر البعض أنهم هم الأمويون الجدد بينما قرّر البعض الآخر أنه لا صلح مع «الجماعات السنّية» لأنهم هم بنو أمية الذين فعلوا كذا وكذا.
الموقفان يقفزان على تاريخ بني أمية وتاريخ الذاكرة الإسلامية، سنية وشيعية، مع الأمويين.
لا أريد أن يتحوّل المقال إلى عرض تاريخي، ولكن لنتذكّر: أنّ «جماعة المسلمين»، ممّن ثار على بني أمية ثم خضع لهم وممّن خضع دون أن يثور، وممّن خضع ثم ثار، لم توالِ بني أمية بشكل مطلق. ثورة الحسين، بطبيعة الحال، تحظى بتعاطف واسع في الأدبيات السنّية وكذلك ثورة «الشيعة» الأولى من بعد مقتل الحسين؛ تقرأ، على سبيل المثال، خبر كربلاء أو عين الوردة عند الطبري فترى توليه لأهل البيت وتعاطفه مع حركة «التوابين» وهو من أئمة الفقه السني. وأبو حنيفة النعمان أيّد ثورات زيد بن علي على بني أمية ثم محمد النفس الزكية على بني العباس. هذا عدا عن ثورات وحركات أخرى عادت بني أمية ونازعتهم الحكم (مثل الدعوة الزبيرية) أو نزعته في النهاية منهم (مثل الدعوة العباسية) وهذه كلها أصبحت من تراث ما بات يعرف بـ«أهل السنة والجماعة». أمّا مَن لم يخرج على بني أمية، فإن الموقف السائد لم يكن الولاء التام ولكن كان الصبر عليهم باعتبارهم قدر الله، ثم شفع لهم عند الناس أنهم قد عضدوا دعائم الملك وعربوا الدواوين وبنوا المساجد ونشروا الأمن والإسلام وفتحوا البلاد. وإن كان هذا قد أعطى نوعاً من الشرعية أو التقييم الإيجابي لملك بني أمية، فإنه لم يجعل «جماعة المسلمين» تغفر لهم اغتصابهم الحكم أو ما فعلوه بكربلاء (كلمات السيدة زينب الخالدة «ولا ترحض عنك عارها» كانت نبوءة صادقة بمآل مَن أقاموا شرعيتهم على هذا الدم).
الموقف المركّب من بني أمية (هم اغتصبوا الحكم وقتلوا أهل البيت، ولكنهم نشروا الأمن والإسلام، وهم في كل الحالات قدرٌ لا مفرّ منه) لم يكن حصراً على أهل السنة. وبينما قامت الشرعية السياسية الشيعية على العداء مع بني أمية، فإن كثيراً ممّن والوا أهل البيت لم يروا تناقضاً ما بين الخروج على بني أمية وبين المشاركة في فتوحاتهم (ومنهم الشاعر الأسطوري أعشى همدان الذي يعتقد أنه شارك في معركة عين الوردة في صف التوابين وكتب عنها قصيدته الرائعة «ألمّ خيالٌ منكِ يا أمّ غالبِ»، وله حكاية طريفة حين وقع في أسر الديلم في واحدة من فتوحات بني أمية ثم تمكّن من الهرب، ثم خرج على الحجاج في ثورة ابن الأشعث التي شارك فيها الفقهاء والتابعون وأُعدم بعد فشل هذه الثورة). بل إنّ ذلك كان جزءاً من منطق الحسن بن علي حين صالح معاوية، وهو منطق ما زال موجوداً في بعض المرويات الشيعية عن هذه المدة. وظل هذا موقفاً عربياً وإسلامياً حتى اليوم؛ لا نرى تناقضاً ما بين استلهام ثورة الحسين وبين الفخر بتاريخ الفتوحات أو بعمارة المسجد الأموي أو قبة الصخرة، ولا يعني ذلك أن نتولّى أو نلتمس العذر لمن قتلوا أهل البيت أو استباحوا المدينة أو ضربوا الكعبة بالمنجنيق أو لا ننفر من أسماء مثل يزيد بن معاوية ومسلم بن عقبة والحجاج الثقفي.
وبينما استحضار بني أمية في سياق الفتوحات كان دائماً جزءاً من التراث الأدبي العربي-الإسلامي، فإن استدعاءهم داخلياً مِن قِبل مَن نصبوا أنفسهم «أمويين جدداً»، ومِن قِبل من تعمدوا الخلط، على الجانبين، بين الأمويين والسنة، أمر مستحدث. وككل المهاترات التاريخية، يقع هذا الاستدعاء في كثير من المفارقات المضحكة المبكية، وما يعنيني هنا اثنتان:
المفارقة الأولى، هي أن «الأموية» كظاهرة تاريخية/تاريخانية، ظاهرة الجبر والملك العضود في سبيل الحفاظ على الدولة ووحدتها، وأن يتحجج هذا الجبر بأن البديل هو الفوضى، واستمداد الشرعية من مواجهة العدو وحماية الثغور، تنطبق أكثر ما تنطبق على نظام الأسد (ليست مصادفة إذاً رمزية المسجد الأموي واستحضار تاريخ بني أمية في أدبيات «البعث» السوري وخطاب الأسدين؛ يبقى الفارق التاريخي أن نظام الأسد اختار المواجهة بالوكالة على العكس من بني أمية، فكان في هذه أشبه ببني العباس، وعلاقة حزب الله بالنظام السوري كانت أشبه بعلاقة الدولة الحمدانية بالدولة العباسية).
كثيرٌ من الحجج التي ساقها أنصار المحور لمناصرة الأسد هي حجج أموية، فالقمع هو قدر منطقتنا (كما كان الأمويون قدر الله) والنظام القمعي هو الذي يحمي سوريا ووحدتها من خطر الجماعات الإرهابية والمسلحة (وبالفعل فإن الحجاج قد أعاد الأمن، على سبيل المثال، إلى البصرة، من بعد أن أنهى وجود «الجماعات المسلحة») ثم إنه هو الذي يرعى المقاومة (كما كان بنو أمية يرعون الفتوحات). فقط في نهايته لم يكن بشار الأسد أموياً، إذ لم يكن هروبه أسطورياً مثل هروب مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية في الشرق الذي أتعب العباسيين في طريق هروبه ما بين الشام ومصر إلى أن قتلوه في أبي صير، ولا مثل عبد الرحمن الداخل الذي هرب من الشام ليبدأ ملكاً جديداً في الأندلس، ولا أظن أن الذاكرة الشعبية والأدبية ستذكره كما ذكرتهم).
الأموية، من حيث هي أم الواقعية السياسية، هي مثل الميكيافيلية؛ المبدأ الميكيافيلي بأن يُحفظ الملك وتُحفظ السيادة على الأرض مهما كان الثمن ومهما كانت الجرائم التي ترتكب في سبيل ذلك تجد معادلها الموضوعي في تاريخ بني أمية وصداها في تبريرات قمعية حديثة لا تقتصر على نظام الأسد. وبينما لا تخلو هذه المصطلحات من حكم أخلاقي، فإن «الواقعية» و«الميكيافيلية» و«الأموية» تصلح كأدوات تحليل لقياس مدى نجاح النظام في بسط سلطته وشرعيته وفرض وحدة البلاد تحت هذه السلطة.
وهنا تأتي المفارقة الثانية، وهي أن من يدعون أنفسهم، أو يدعوهم أنصارهم «أمويين جدداً» فشلوا حتى الآن في أن يكونوا أمويين. ربما هم أمويون في إدراكهم لضرورة الحسم مع «قسد»، وربما نرى شيئاً من شعرة معاوية ما بين الجولاني وأطراف أخرى (لا يحتفظ بهذه الشعرة مع إيران بينما الموقف الأموي يستدعي عكس ذلك)، ولكنهم تراجعوا أمام أكثر المهمات واقعية/أموية بتهاونهم أمام الزحف الإسرائيلي على أراضيهم. هذه ليست قضية أخلاقية أو شرعية محضة (من حيث أن جهاد الدفع في الإسلام فرض عين) ولكن قضية واقعية، مكيافيلية/أموية، تتعلق باستقرار هذا النظام ومستقبله. إنّ الأموي يدرك خطورة أن يكون العدو على تخومه، ويتوغل في أراضيه، ويرابض في موقع إستراتيجي على جبل الشيخ. والأموي يدرك، بحقائق السياسة، أن هذا المرابض على الحدود عدو بغض النظر عن الموقف الأخلاقي.
ربما في آخر عهدهم، وأمام الدعوة العباسية، تأخّر الأمويون في إدراك هذا الخطر (ولكنهم لم يكونوا مثل الأمويين الجدد إذ لم يهملوا الثغور حتى وهم يواجهون هذا الخطر «الداخلي»). وقتها كتب إليهم واليهم على خراسان نصر بن سيار يحذّرهم ويلومهم على هذا التقاعس. والآن، ونحن نرى تقاعس «الأمويين الجدد» عن وظيفتهم الأموية، نرى انشغالهم لا عن الثغور فحسب بل عن المواقع الإستراتيجية وما قد يعنيه احتلالها من خلخلة سيادتهم قبل أن تبدأ، ونحن نرى التصريحات المعيبة لمحافظ دمشق الجديد يبرر لإسرائيل إنها إنما «تقدّمت قليلاً، قصفت قليلاً...» لأنها «شعرت بالخوف» ثم يطمئنها «ليس هناك أي خوف تجاه إسرائيل، ليست مشكلتنا مع إسرائيل ولا نريد أن نعبث مع ما يهدد أمن إسرائيل... لا نستطيع أن نكون نداً [هكذا في الأصل] لإسرائيل ولا نستطيع أن نكون نداً لأحد».
نتذكر الأبيات البليغة لنصر بن سيار:
«أقول من التعجّب ليت شعري... أأيقاظ أمية أم نيام
فإن يقظت فذاك بقاء ملكٍ... وإن رقدت فإني لا ألام
فإن يك أصبحوا وثووا نياماً... فقل قوموا فقد حان القيام»
* كاتب عربي من مصر

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي